الحديث عن الأشجار يصب في خانة التواصل بين الأجيال ويعطى لمحة عن صورة ربما تبدو غير مألوفة للكثيرين, فكان من الأفضل تسجيلها حتى لا تضيع, كما أن الباب مفتوح لمن يريد إضافة معلومة ما أو تصحيح خطأ ما فالكمال لله وحده.
شجرة الحكيم ورعاية صحية مجانية
موقع شجرة الحكيم في الرويس غرب منزل العم عوض الطيب, والحكيم والطبيب والدكتور مسميات لشئ واحد, تعددت الأسماء وسماعة هذا الشئ واحدة, وقد كان المكان حول الشجرة ساحة ممتدة إلى الزرائب, وأقيم في مكانها الآن مبان, وقد استمدت هذه الشجرة أهميتها من أنها كانت الموقف الرسمي للشفخانة المتنقلة التي كانت تؤدي مهمة الرعاية الصحية الأولية للأرياف, وذلك قبل بناء وافتتاح شفخانة العكد في عام 1967 ,
تأتي هذه الشفخانة كل ثلاثاء وهي عبارة عن (كومر) عليه صندوق وتسنطيع بلغة هذا العصر إطلاق لفظ (دفار) عليه, به رفوف للأدوية, وكانت العادة أن يجلس الطيبيب داخل الكومر, بينما يبفى مساعدوه من الممرضين في الخارج لتنظيم حركة المرضى وتقديم العلاج, ومعظم الحالات في ذلك الوقت كانت عبارة عن جروح تحولت إلى (عواوير ) و أيضا حالات القحة والإسهال (المعروف باسم النطرة) والدوسنتاريا (العصرة) والقوب و أبو الضباح وأبو اللغود, وأمراض العيون وكان من الشائع أن تستيقظ ذات صباح وتجد عينيك وقد ضرب عليها ستار حديدي ولا تستطيع فتحها, وكأن أحدهم قد جر عليها (اصبع أمير), و لا يقتصر دور الطبيب على هذه الحالات بل يقوم بمتابعة مشاكل الحوامل, أما ما يستعصى عليه من حالة فانه يأمر بتحويله لمستشفى عطبرة, و معظم زبائن هذه العيادة المتنقلة هم النساء والأطفال, أما الرجال فمن النادر رؤيتهم إلا بعض المزارعين وكبار السن أو أصحاب الحالات الطارئة.
لا يقتصر الأمر على العلاج فقط بل كان يجرى تحت هذه الشجرة تحصين الأطفال وايضا التحصين ضد الجدري والمسمى (بالقروعة) ولا زالت أذرعتنا تحمل ذكرى باقية من هذه القروعة إذ كانت تتم باحداث فتحة في أعلى الذراع عند الكتف طولها حوالي سنتمتر, كذلك يمنح الأطفال جرعة من مادة بيضاء في فنجال صغير الحجم عرفنا فيما بعد أنها مضاد حيوى, وقاتل الله الجهل فقد كنا نتسابق للفوز بشرب أكبر قدر من الفناجيل رغم مرارة محتواها معتقدين أنه كلما تجرعت منها أكثر زادت مناعتك.
ومن غرائب ذلك العصر أن هناك عربة رش تاتي أحيانا رفقة الكومر وأحيانا منفصلة عنه تقوم برش كل بيوت القرية بمادة (الجبكسين), في سابقة فريدة تعكس الإهتمام بصحة البيئة, ويمكن تصور أهمية هذا الرش باعتبار أن العديد من الآفات كانت تعتبر جزءا لا يتجزأ من حياة الإنسان.
شجرة الخلوة وميت مجهول
الشجرة السابقة التي تحدثنا عنها كانت شجرة تمنح الحياة وتصونها, أما الشجرة التالية فقد أرتبطت في ذهني بالموت. وهذه الشجرة تقع شرق خلوة حاج سعد الدايش وليست بعيدة عن الخلوة, وهي غير موجودة الآن, ولعل من أعجب المناسبات التي أذكرها والتي أقيمت تحت ظل هذه الشجرة الضخمة هي (بكاء) أقيم لوفاة شخصية مهمة, وقد تكون تلك الشخصية أحد أفراد عائلة المهدي, أو شيخ من شيوخ الطرق الصوفية تربطه صلات مع أهل العكد أو ربما أحد العمد, فقد أقامت النساء (مناحة) في ظلها وتخلل تلك المناحة الطقوس المعتادة في ذلك الوقت وهي العزف على القرع, إذ يتم إحضار قرع ووضعه مقلوبا على طشت به ماء والنقر عليه مع ترديد مآثر الفقيد, وبين كل شوط من أشواط العزف تقوم النسوة بعملية اسمها (الردح) وهي شد الوسط بالثوب أو قطعة قماش ثم اللطم والتمايل وكيل ما تيسر من رماد أو تراب على الرأس,
تفعل المرأة ذلك وهي تصرخ وتمزج مع الصراخ ذكر مناقب الفقيد أو تقوم بترديد أشعار قصيرة حزينة, وكلما أصاب بيت شعر وترا حساسا لدى إمراة أخرى يزيد شجونها, لطمت هي الأخرى وصرخت وتولت إكمال المناحة وهكذا يستمر (البكاء) حارا لعدة أيام لا يوقفه سوى الصدقة ورفع الفراش, ولا زلت أبحث إلى تاريخ اليوم عمن يكون ذلك الميت, ولا زلت متعجبا من صبر النسوة على مواصلة البكاء عدة أيام دون أن تكون هناك علاقة مملوسة من صلة رحم أو نسب مع الفقيد تشعل نار الحزن